منذ اللحظة الأولى التي يُطرح فيها موضوع “البيتكوين” في فضاءٍ إسلامي، يتشكّل توجّس تلقائي في ذهن المتلقي. كأنّ العقل المسلم ، بخبرته المتوارثة وتاريخه الطويل مع الفتن المالية والمكر الاقتصادي ، يرفع درعًا دفاعية قبل أن يسمع الحجة. هذا التوجّس ليس وليد لحظة، بل هو نتاج قرون من علاقةٍ مضطربة بين المال والسلطة، وبين الشريعة والواقع، وبين ما هو مقدّس وما هو دنيوي.
في التصور الإسلامي ، المال ليس مجرّد أداة تبادل؛ بل هو “أمانة” و“مسؤولية” و“ميزان” يحتاجه الإنسان في المعاملات. هذا التصور الغنيّ بالرموز الأخلاقية يجعل كل تجديد في عالم المال يثير الخوف قبل الفضول، لأنّ المال في المخيال الإسلامي محمّل بمعاني الدار الٱخرة: “من أين اكتسبه وفيما أنفقه”. لذا، حين ظهر البيتكوين ، وهو نظام ماليّ لا يصدر عن دولة، ولا يضبطه مصرف، ولا تملكه مؤسسة ، بدت الفكرة وكأنها تهديد لنظامٍ أخلاقيّ متجذّر أكثر مما هي تهديد لنظامٍ اقتصاديّ.
العقل المسلم عاش طويلاً في بنية مركزية متماسكة: الحاكم يصدر العملة، الفقيه يضع الضوابط، السوق يعمل ضمن حدودٍ مرسومة. هذا النسق منضبط ومتجانس؛ فيه الراحة النفسية التي تمنحها السلطة حين تقول لك “هذا حلال، وهذا حرام”. لذلك فإنّ أي منظومة جديدة تكسر هذا التسلسل الهرمي وتقدّم بديلًا بلا رأس، بلا وسيط، بلا مركز، تُحدث خلخلة معرفية عميقة قبل أن تُحدث خلافًا فقهيًا.
من جهةٍ أخرى، لا يمكن إنكار أنّ صورة “العملات الرقمية” التي رُسمت في الإعلام التجاري شوهت المعنى الحقيقي للبيتكوين. فحين يسمع المسلم “عملة رقمية”، يتبادر إلى ذهنه فورًا مشهد المضاربات، والمنصات، والأسعار التي تتقلب كالقمار. هذه الصورة الذهنية الراسخة تجعل من المستحيل تقريبًا الحديث عن البيتكوين كـنظام نقديّ بديل قبل تصحيح المفهوم الأولي بأنه ليس أصلًا من أصول المضاربة، بل هو أصل من أصول الوجود الاقتصادي الجديد القائم على الطاقة والعمل والشفافية.
هنا تظهر المفارقة: الإسلام في جوهره دين يُعلي من قيمة العمل، ويحرم الكسب دون جهد، ويكرّم الصدق في المعاملة. و البيتكوين في جوهره ، حين يُفهم على حقيقته التقنية ، يجسّد هذه المبادئ نفسها: لا يُخلق دون عمل (التعدين)، ولا يُنقل دون صدق (التحقق)، ولا يُملك دون أمانة (المفاتيح الخاصة). لكن الفجوة المعرفية بين “لغة الفقه” و“لغة التقنية” تجعل الجسر بين العالمين هشًّا، فلا يلتقيان إلا في مواضع سطحية، تُفسَّر فيها الظواهر بالشك لا بالفهم.
من هنا، فإنّ الحذر الذي يبديه العلماء ليس رفضًا محضًا، بل هو نتيجة غياب البنية المفهومية التي تسمح بترجمة البيتكوين إلى المفاهيم الإسلامية المألوفة. إنهم يملكون مفاتيح فقه المعاملات، لكن ليس مفاتيح فقه التقنية.
في المقابل، يحمل مجتمع البيتكوين معرفة تقنية عميقة، لكنه في الغالب يفتقر إلى القدرة على التعبير عنها بلغةٍ تحمل الحسّ الروحي والأخلاقي الذي يحتاجه العقل المسلم كي يطمئن.
النتيجة: سوء تفاهم حضاري بين عقلين يسعيان ، في العمق ، إلى الشيء نفسه: العدالة، الصدق، الحرية من الظلم.
لكن الأول يسلك طريق “النص”، والثاني يسلك طريق “الشفرة”.
وكلاهما، حين يبلغان الغاية، يكتشفان أنهما كانا يتحدثان عن نفس الحقيقة بلغتين مختلفتين.
الأسباب التي جعلت من البيتكوين موضوع خيفة و توجس من المجتمع الإسلامي وعلى رأسهم علماء الدين.
الغرر والميسر:
الجذور الفقهية والاقتصادية لموقف التحريم.
في جوهر الاقتصاد الإسلامي، تقوم العدالة على اليقين.
فلا بيع إلا ما وُصف وصفًا يمنع الجهالة، ولا عقد إلا بما اتضح طرفاه، ولا ربح إلا فيما كان مقابل عملٍ أو مخاطرةٍ مشروعة. هذه القاعدة العظيمة ليست تفصيلًا فقهيًا، بل هي ثمرة وعيٍ عميق بمأساة الإنسان حين يُغرى بالربح السهل. لقد جاء الإسلام ليحرر الإنسان من طغيان “الاحتمال” و نقله إلى واقع “العمل”، لأن الاحتمال يغري النفس بالوهم، بينما العمل يربطها بالواقع. من هنا، جاء تحريم الغرر (الجهالة في العقود)، وتحريم الميسر (الربح من غير مقابل حقيقي)، كوسيلة لحماية الفطرة من الانزلاق في دوامة الطمع.
حين ينظر الفقيه إلى ظاهرة البيتكوين لأول مرة، يرى مشهدًا صاخبًا من الأسعار المتقلبة، و التداولات اللحظية، والمضاربات المليارية. يرى أناسًا يشترون ويبيعون شيئًا لا يلمسونه، لا يفهمون قيمته الحقيقية، ولا يعلمون من يصدره، فيحكم على الظاهر بما يرى: “غرر” و“ميسر”. والحق أن هذه الصورة الظاهرية ليست بعيدة عن الواقع التجاري للمنصات المركزية التي تبيع وتشتري رموزًا رقمية كأنها أوراق يانصيب.
لكن الخطأ هنا لا يكمن في الحكم الفقهي نفسه، بل في تحديد محل الحكم:
هل نتحدث عن “البيتكوين” كأصل نقديّ؟ أم عن “التداول المضاربي” الذي يجرى حوله؟
البيتكوين في ذاته ليس سوقًا ولا مقامرة. إنه نظام، أو بالأحرى “شبكة طاقة-معلوماتية” تُنتج وحدة نقدية رقمية ناتجة عن عملٍ فيزيائيّ قابل للقياس. عملية التعدين ليست حظًّا، بل معادلة رياضية تتطلب طاقة ومعالجة، أي جهدًا وقيمة حقيقية. بينما الميسر في جوهره يقوم على انعدام العمل، وعلى وجود طرف رابح وآخر خاسر بلا تبادل عادل.
أما في نظام البيتكوين، فجميع المشاركين في الشبكة متعاونين على حفظ القيمة العامة للشبكة و هذا ما ينتج حالة ربح ربح لا يمكن أن تراها في النظام المالي الحالي الذي يستمد قوته من قاعدة واحدة كل رابح يقابله خاسر.
كل وحدة بيتكوين خرجت من شبكةٍ صرفت طاقة كهربائية حقيقية لحلّ لغز رياضيّ، أي أنها ثمرة تحويل للطاقة إلى قيمة. هذه النقطة وحدها كفيلة بتغيير زاوية النظر من “غرر” إلى “عمل”، ومن “مقامرة” إلى “مقابلة عادلة بين الجهد والإنتاج”.
أما تقلب السعر، الذي يُعدّ أحد أعمدة الاستدلال على الغرر، فليس دليلًا قاطعًا في ذاته.
فكل أصل جديد في التاريخ ، من الذهب إلى أسهم الشركات الأولى ، عرف في بداياته تذبذبًا عنيفًا قبل أن يستقر. والتقلب ليس ناتجًا عن طبيعة البيتكوين، بل عن ضعف الوعي الجمعي بمفهومه، وعن هيمنة السوق الورقي عليه. إنّ الغرر المحرّم في الفقه هو الجهالة في العقد ذاته، لا الجهالة في السوق حوله. والعقد في البيتكوين واضح لا لبس فيه: مرسل، مستقبل، كمية محددة، رسوم معلومة، توقيع مشفّر.
فأين الجهالة؟
الجهالة الوحيدة كانت في عيون من لم يفهموا ما يحدث خلف البرمجيات.
ثم إنّ الميسر في حقيقته يعبّر عن “اختلال العلاقة بين الجهد والمكافأة”.
في الاقتصاد التقليدي القائم على البنوك المركزية، تُطبع النقود دون جهد، وتُخلق الثروة من لا شيء عبر الائتمان. أليس هذا أقرب إلى الميسر منه إلى العمل؟
بينما في البيتكوين، لا تُخلق العملة إلا من خلال جهد فيزيائي قابل للقياس. كل ساتوشي يحمل في داخله أثرًا من طاقة أُحرقت لحماية الشبكة وتأكيد صدق المعاملة. إنه “مُنتَج طاقة”، “لا نتاج” حظ”.
ولذلك، فإنّ إعادة النظر الفقهية تقتضي أولًا إعادة تعريف “المال” نفسه.
هل المال ما يُسكّ في دار الضرب السلطانية؟
أم ما يعترف به الناس طوعًا كحامل للقيمة؟
هل المال ما يُخلق من لا شيء بفعل قرارٍ إداريّ؟
أم ما يُستخرج من تفاعل حقيقي بين المادة والطاقة والمعلومات؟
حين يُطرح السؤال بهذا الشكل، يتضح أن الغرر الحقيقي ليس في البيتكوين، بل في النظام النقدي الورقي نفسه، الذي لا أحد يعلم كم فيه من الوهم، وكم من الحقيقة.
البيتكوين، إذن، ليس مقامرة. بل هو استعادة لمفهوم العدالة في الكسب، وعودة إلى المبادئ الإسلامية القويمة
فمن سعى بطاقة، نال قيمة.
ومن أراد الربح دون عمل، فلن يجد له مكانًا في نظامٍ يساوي بين الناس عبر الرياضيات لا عبر النفوذ.
اللامادية : المال بين الوجود الحسيّ والوجود الرقمي
منذ أن وُجد الإنسان، ارتبط مفهوم “المال” عنده بما يُرى ويُمسك ويُخزّن.
الحبوب، والذهب، والفضة، ثم النقود الورقية؛ كلها أشكال محسوسة تمنح الإنسان يقينًا نفسيًا بأنه يملك شيئًا حقيقيًا، شيئًا يمكن أن يراه أو يحمله في جيبه. هذا الارتباط الحسيّ العميق ليس مجرد عادة اقتصادية، بل هو انعكاس لغريزةٍ وجودية في الإنسان: الخوف من اللامرئيّ.
ففي عالمٍ متغيّر، يطمئن الإنسان لما يراه، ويخاف مما لا يُدركه بحواسه. ولهذا السبب، حين سمع الفقهاء بالبيتكوين ، مال لا يُمسك، لا يُرى، لا يُصدره سلطان ، بدا الأمر كأنه عبث بسنن الخلق، أو كما قال بعضهم: “مالٌ لا وجود له إلا في الخيال”.
لكن هنا تبدأ المفارقة الفلسفية العميقة:
هل الوجود يُقاس بالملموس فقط؟
وهل ما لا يُرى لا يُوجَد؟
إنّ الإسلام ذاته، في أعمق مفاهيمه، يربط الإيمان بـ ما غاب عن الحواس.
الإيمان بالغيب
ليست مجرد جملة إيمانية، بل إعلان عن أن الوجود أوسع من الإدراك الحسيّ.
الروح لا تُرى، لكن أثرها يملأ الجسد حياة.
النية لا تُلمس، لكن أثرها يُغيّر حكم العمل كلّه.
والزمن نفسه ، إذا تأملت قليلا في ستدرك أنه فقط موجود في العقول ، لكنه أثمن ما يملكه الإنسان.
إذن، ليس كل ما لا يُرى خيالًا.
و هنا، يجب أن نفهم “البيتكوين من هذه الناحية”.
البيتكوين ليس “عدمًا رقميًا” كما يظن البعض، بل هو وجودٌ رياضيّ فيزيائيّ متجسّد في الطاقة التي صُرفت لإنتاجه، وفي النظام الذي يضمن وجوده عبر التشفير.
كل وحدة بيتكوين هي نتيجة لعملية حقيقية حدثت في العالم المادي: أجهزة اشتغلت، طاقة استُهلكت، حرارة انبعثت، ونتيجة ذلك الجهد خُلِقت معلومة جديدة ، تواقيع رقميّة ، داخل سجلّ موزّع لا يمكن محوه.
بهذا المعنى، فإنّ “البيتكوين” ليس شيئًا غير ملموس، بل هو تحويلٌ للطاقة إلى معلومة قابلة للامتلاك.
إنه “الذهب الرقمي”، لا بمعنى التشبيه التسويقي، بل بمعنى فلسفي دقيق: كلاهما ثمرة جهد، وكلاهما نادر(الندرة المطلقة للبيتكوين في حد ذاتها اكتشاف علمي خارق)، وكلاهما لا يعتمد على وعدٍ من أحد.
لكن الفقهاء حين نظروا إلى البيتكوين، لم تكن أدواتهم المعرفية معدّة للتعامل مع هذه الطبقة الجديدة من الوجود.
الفقه الإسلامي تطوّر في عالمٍ مادّيّ ثابت، حيث الأشياء إمّا تُمسك أو لا تُمسك، والملكية إمّا في اليد أو في الذمة.
أما في العالم الرقمي، فقد ظهر نوع ثالث من الوجود: الوجود الطاقيّ المعلوماتيّ، الذي لا يتجسّد في مادة، لكنه قائم في بنية الطاقة والمعالجة والزمن.
وهذا الوجود ليس “افتراضيًا”، بل هو حقيقيّ بالمعنى الفيزيائي: يمكن قياسه، ويمكن التحقق منه، ويمكن نقله دون أن يُستنسخ، تمامًا كما تنتقل الطاقة.
هنا يجب أن نعيد تعريف المال، لا كـ “مادة”، بل كـ “شكل” من أشكال الطاقة المخزّنة في رمز.
بهذا المنطق، يصبح القول بأن البيتكوين “غير ملموس” مثل القول بأن الكهرباء “غير موجودة”.
نحن لا نراها، لكننا نرى آثارها في كل مكان.
نحن لا نحملها في الجيب، لكننا ندفع ثمنها لأنها عمل حقيقيّ مُتحوّل إلى منفعة.
إنّ التحدي الأكبر أمام العقل الفقهي اليوم ليس في إصدار حكم على البيتكوين، بل في توسيع مداركه لتشمل الوجود الرقمي كامتداد للوجود المادي.
فالعالم تغيّر، وأصبح “الملموس” يتجسّد في “المحسوب”، والملكية لا تُثبت باليد بل بالمفتاح الخاص، والضمان لا يأتي من السلطان بل من التشفير.
وحين يدرك الفقيه أن “البيتكوين” ليس خيالًا ولا مقامرة، بل هو نظامٌ فيزيائيّ رياضيّ أخلاقيّ يحوّل العمل والطاقة إلى قيمةٍ قابلة للقياس،
حينها فقط، يزول الحاجز النفسي الذي يجعل من اللاملموس سببًا للرفض،
ويتحوّل الإدراك من الخوف من “ما لا يُرى” إلى الإعجاب بدقة ما صاغته العقول البشرية حين فهمت قوانين الله في الخلق.
غياب الجهة المصدّرة: مفهوم السلطة في الاقتصاد الإسلامي، مقابل مفهوم الإجماع اللامركزي في البيتكوين.
منذ القرون الأولى في الإسلام، ارتبطت فكرة “النقد” بالسلطة.
لم يكن الدينار والدرهم مجرد وسيلة تبادل، بل كانا علامة على السيادة.
على وجه كل قطعةٍ نقدية، نُقش اسم الخليفة أو السلطان، لا لمجرد الزينة، بل لتأكيد أن هذه القطعة تمثل “كلمة الدولة” ووعدها بالقيمة. وهكذا، أصبح للنقد هيبةٌ تشبه هيبة الحكم، وأصبحت طاعة العملة جزءًا من طاعة النظام العام.
تكرّس هذا الارتباط عبر القرون، حتى صار في اللاوعي الجمعي الإسلامي أن “المال لا يكون مالًا إلا إذا أصدره ذُو سلطانٍ شرعي”، لأن العدالة في التعامل تتطلب جهةً تتحمل المسؤولية.
ومن هنا، نشأ المبدأ الذي يجعل العلماء ، حتى المعاصرين منهم ، ينظرون إلى أي نقدٍ غير صادر عن دولة بعين الريبة، إذ في غياب الجهة المصدّرة يبدو لهم النظام كأنه بلا ضمان، بلا رقابة، بلا عهد.
لكن ماذا لو كان الضامن ليس شخصًا، بل قانونًا؟
وماذا لو لم تكن الرقابة من بشرٍ خطاؤون، بل من شبكةٍ لا تنام، تعمل وفق معادلات دقيقة لا تعرف المجاملة ولا الهوى؟
هنا، يقدّم البيتكوين مفهومًا جديدًا جذريًا للثقة، يمكن تلخيصه في جملة واحدة:
“الثقة لا تُمنح، بل تُبرمج.”
في الاقتصاد التقليدي، السلطة هي التي تُنتج الثقة.
لكن في البيتكوين، الثقة تنشأ من النظام نفسه، من طريقة عمل الشيفرة، من شفافية القواعد، من وضوح المعادلات التي لا يستطيع أحد تغييرها.
البيتكوين ألغى فكرة “المُصدِر” واستبدلها بفكرة المُتحقِق””.
فلا أحد يصدر البيتكوين، بل يُنتَج تلقائيًا عندما يتحقق النظام من أن العمل قد أُنجز، والطاقة قد صُرفت، والمعادلة قد حُلّت.
بهذا التحول، انتقل مركز السلطة من “الإنسان” إلى “قانون الرياضيات”.
وما يظنه الفقهاء “غيابًا للجهة المصدّرة” هو في الحقيقة تحوّل نوعي في مفهوم الجهة نفسها.
لم تعد جهةً سياسية تُصدر النقود بأمرٍ فوقيّ، بل شبكة لامركزية تُنتج القيمة من توافقٍ أفقيّ بين آلاف المشاركين الذين لا يعرف بعضهم بعضًا، لكنهم يجتمعون على قاعدة واحدة: صدق المعادلات الرياضية .
من منظورٍ إسلامي، هذا التحول لا يتعارض مع مقاصد الشريعة، بل يحققها بدرجةٍ لم تبلغها النظم المركزية الحديثة.
ففي النظام اللامركزي، لا يمكن لحاكمٍ أن يطبع المال دون حساب، ولا يمكن لبنكٍ أن يحتكر السيولة، ولا يمكن لقوةٍ بشرية أن تمارس الغشّ أو الإكراه في توزيع القيمة.
وهذه المبادئ تتقاطع بدقة مع القيم الإسلامية الكبرى: العدل، الشفافية، المساءلة.
بل يمكن القول إنّ مفهوم “الإجماع” في البيتكوين يحمل روحًا تشبه الإجماع الفقهي الإسلامي من حيث البناء، وإن اختلفت الأداة.
ففي كليهما، لا يُفرض القرار من الأعلى، بل يُستمدّ من توافقٍ حرّ بين المشاركين على قواعد مشتركة.
البيتكوين جسّد الإجماع في معناه التقني، تمامًا كما جسده علماء الأمة في معناه الشرعي: اتفاق جماعةٍ من العقلاء على أمرٍ لا يخالف العقل ولا العدل.
لكن الفارق أن البيتكوين جعل هذا الإجماع آليًا لا بشريًا، فلا يحتاج إلى هيئةٍ أو مجلسٍ أو إمضاءٍ سلطاني، لأن النظام ذاته يحتوي على آليات الإجماع والتحقق.
تلقائيا من داخل الشبكة.
وهنا يظهر المعنى الفلسفي العميق:
البيتكوين ليس ثورة ضد السلطة، بل عودة إلى الأصل قبل أن تُختزل السلطة في الأشخاص.
إنه استعادة لفكرة أن العدالة يمكن أن تكون خاصية في النظام ذاته، لا هبة من الحاكم.
ففي حين جعلت الأنظمة المركزية من الثقة عقدًا بين الحاكم والمحكوم، جعل البيتكوين من الثقة نتاجًا حتميًا من بنية الشيفرة.
إذن، حين يخشى الفقيه غياب “الجهة المصدّرة”، فهو في الواقع يخشى غياب “الجهة الضامنة للأخلاق”.
لكن لو تأمل في جوهر البيتكوين، لأدرك أن الأخلاق لم تُلغَ، بل أُدمجت في النظام:
الصدق مُبرمج لا يمكن الكذب في المعاملة.
العدل مضمون كل معاملة تُراجع تلقائيًا.
الأمانة مصانة لا أحد يستطيع إنفاق ما لا يملك.
أي أن القيم التي كان الفقيه يطلبها من السلطة البشرية، أصبحت في البيتكوين جزءًا من البنية الرياضية للنظام.
وهكذا، يصبح البيتكوين ليس خروجًا على النظام، بل إعادة هندسة للعدالة بوسائل أكثر انضباطًا من البشر أنفسهم.
فالسلطة لم تختفِ، بل تحوّلت من “شخصٍ يملك القرار” إلى “نظامٍ لا يمكن أحد تغييره”،
ومن “خضوعٍ للقوة” إلى “التزامٍ بالقانون”.
الشفافية والنوايا: من القصد الشرعي إلى الأفعال المبرمجة
في الفكر الفقهي الإسلامي، لا تُقاس الأعمال بالنوايا فحسب، بل بالنوايا في إطار الفعل الظاهر.
المعاملات المالية في الإسلام ليست مجرد تبادل للأرقام، بل هي إرادة متحققة في سياق واضح يمكن للمجتمع ملاحظته.
النية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تتجسد في فعل واضح، مشروع، يمكن أن يُراجع ويُحاسب عليه.
هذا المبدأ يحمل في طياته فلسفة عميقة: أن العدالة لا تتحقق إلا حين تكون النية الصافية معلنة في إطار نظام واضح يمكن التحقق منه.
أي أن الشريعة لا تعتمد على "قلب الإنسان" وحده، بل على التفاعل بين القلب والفعل، بين الرغبة والممارسة، بين الإرادة الفردية والضوابط الجماعية.
لهذا السبب، أي نظام مالي يفتقد للشفافية، أو يترك الثقة مجردة بين الأطراف، يثير الريبة ويُعتبر مشكوكًا في مطابقته للمعايير الشرعية.
البيتكوين، حين يُقارن بهذا المعيار، يبدو في البداية غريبًا للعين الفقهية:
لا يوجد “مسؤول” يضمن نزاهة المعاملة، ولا توجد جهة تُحقق في القصد، ولا أوراق قانونية تُوقعها الأطراف لتثبت النية.
لكن عند التدقيق، نجد أن النظام نفسه صُمم ليجعل كل فعل مالي شفافًا ومتحققًا بشكل تلقائي.
كل معاملة تُسجل في البلوكشين، وكل كتلة تتحقق من صحتها عبر شبكة من العقد، وكل تغيير أو محاولة تزوير تكتشف فورًا.
بمعنى آخر، النظام الرياضي للبيتكوين يحول النية إلى فعل ظاهر يمكن التحقق منه عالمياً، دون أن يحتاج إلى تدخل بشري.
النية، أو القصد، تتحقق ليس عبر إشراف خارجي، بل عبر قواعد دقيقة.
الشفافية هنا ليست اختيارية، بل مضمنة في بنية النظام نفسها.
أي محاولة لتزييف المعاملة أو التحايل على الشبكة تصبح مستحيلة تقريبا، لأن كل عقدة في الشبكة تشارك في التحقق وتسجيل كل حدث مالي.
من منظور إسلامي، هذا يقابل الشرط الفقهي بأن المعاملات يجب أن تكون مفتوحة للفحص ويمكن الرجوع إليها في حال النزاع.
فالبيتكوين يحقق هذه الشفافية بشكل متفوق على أي نظام بشري معرض للخطأ و التلاعب.
النظام لا يثق في الأشخاص، بل يثق في الحقيقة الموضوعية التي تنتجها المعادلات، وتلك الحقيقة لا يمكن تزويرها.
وهكذا، يمكن القول إن ما يبدو للناظر التقليدي “غيابًا للنية الشرعية الظاهرة” هو في الحقيقة نظام آخر للنية الظاهرة، ولكن على مستوى عالمي وبرمجي.
النية لم تعد محتكرة داخل الفؤاد البشري، بل أصبحت حقًا قابلًا للتحقق في العالم المادي الرقمي، مترجمة إلى أفعال لا يمكن إنكارها أو تزويرها.
في النهاية، يتضح أن ما يراه بعض العلماء قصورًا في البيتكوين، هو في الواقع تحوّل فلسفي جذري:
من اعتماد الشريعة على التأكد من نزاهة البشر، إلى التأكد من نزاهة القواعد والمبادئ الموضوعية التي تضمن العدالة والشفافية.
النية لم تُلغَ، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الآلية نفسها، غير قابلة للتحريف، أو التأويل، أو التحايل، وهذا في جوهره يلتقي مع روح الشريعة الإسلامية التي تطلب وضوح الفعل وصدق المعاملة.
التقلب والتقنين: الأمن المالي في الإسلام مقابل تقلب القيمة في البيتكوين، وكيف يمكن التوازن بينهما.
أحد أبرز أسباب تحفظ الفقهاء على البيتكوين يعود إلى الطبيعة المتقلبة للقيمة.
في الشريعة الإسلامية، المال لا يُنظر إليه مجرد رقم، بل وسيلة تحفظ الثروة وتحمي القدرة الشرائية.
المال هو أداة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي، وضمان قدرة الفرد على الوفاء بالتزاماته، سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرين.
أي شيء يجعل هذا الاستقرار غير مضمون، ويحوّل المال إلى أداة مضاربة بحتة، يثير شكوك العلماء، ويضعه تحت دائرة التحريم المرتبط بالغرر والميسر.
البيتكوين، بطبيعته، يخضع لقوانين العرض والطلب ، والتفاعل الحر بين المستخدمين والمعدنين.
هذا يؤدي إلى تقلبات حادة في القيمة، قد تصل إلى نسب غير مسبوقة في فترة قصيرة.
وهنا يظهر للوهلة الأولى ما يراه العلماء "مقام الميسر"، إذ يبدو أن المستخدمين يخاطرون بممتلكاتهم دون ضمان، ويُفترض أن الهدف هو الربح السريع وليس تلبية الاحتياجات الفعلية.
لكن الغوص العميق في طبيعة البيتكوين يكشف حقيقة مختلفة تمامًا:
البيتكوين ليس مجرد أداة للمضاربة، بل هو سلعة رقمية محدودة، تشترك في بعض خصائص الذهب أو المعادن النفيسة، حيث القيمة تأتي من الندرة والجهد المبذول في الإنتاج.
التقلب ليس نتيجة فوضى أو تلاعب، بل نتيجة مرحلة تطور السوق الحر الرقمي، حيث يتم اكتشاف القيمة الحقيقة لهذه السلعة الجديدة.
على المدى الطويل، ومع نمو اعتماد الشبكة وانتشار الاستخدامات العملية، تتراجع حدة التقلبات وتصبح أكثر استقرارًا، كما حدث مع الذهب والمعادن النفيسة قبل أن تُصبح معيارًا عالميًا مستقرًا.
هنا يظهر الحل المقترح لمواجهة مخاوف الفقهاء: التفريق بين الاستخدام كأداة ادخار واستثمار وبين المضاربة المحضة.
كمخزن للقيمة: يمكن للمسلم شراء البيتكوين والاحتفاظ به على المدى الطويل، مستفيدًا من ندرة العملة واستقلالها عن التضخم الورقي.
كوسيلة للتبادل: يمكن استخدامه لدفع ثمن السلع والخدمات، حيث تتحقق وظيفة المال الأساسية كمعيار ووسيلة لتسهيل التجارة، بعيدًا عن المضاربات العشوائية.
تجنب المضاربة: توعية المجتمع بأن الهدف الأساسي ليس الربح السريع عبر المضاربة، بل تأمين ثروته، والاحتفاظ بقيمة حقيقية في مواجهة التدهور الهيكلي للعملات الورقية.
البيتكوين، حين يُنظر إليه من هذه الزاوية، يتوافق جزئيًا مع مقاصد الشريعة المالية:
حفظ المال: حماية الثروة من التضخم والفساد الورقي.
تحقيق العدالة: نظام شفاف لا يعتمد على سلطة بشرية، بل على قواعد محددة.
ضمان القدرة على الوفاء بالالتزامات: من خلال وحدة القياس المعتمدة عالميًا والمقبولة بين الأطراف.
بذلك، يمكن القول إن مخاوف العلماء ليست عبثية، بل نتاج فهم تقليدي للمال قائم على التجربة التاريخية.
لكن البيتكوين يمثل خطوة فلسفية وتقنية جديدة، تعيد تعريف المال نفسه، من كونه أداة بشرية مركزية إلى كونه نظامًا رقميًا عالميًا، مستقلًا عن تقلبات الثقة البشرية، و يستحق إعادة النظر بوعي عميق ومتأني.
بهذا الشكل، يمكن تحويل الرفض الأولي القائم على الصورة النمطية إلى فرصة للتعليم وإعادة التفكير النقدي، وخلق ثقافة مالية رقمية إسلامية متوافقة مع المبادئ، مبتكرة في استخدام التكنولوجيا، وواعية في حماية المال والعدالة الاجتماعية.
Login to reply